من أين أتت خطوط الحمار الوحشي
جميعنا يعرف هذا الكائن الذي أصبح يرمز للقارة الإفريقية بخطوطه البيضاء، لكن لطالما سألت نفسي لماذا تطور الحمار الوحشي بهذا الشكل. ماهي الفائدة التطورية التي جعلت من هذه الخطوط البيضاء تقدم فائدة بقائية له بالمقارنة مع مميزات آخرى نجدها عند كائنات آخرى تعيش في نفس البيئة.
عند البحث وجدت بعض الفرضيات التي يمكن دحضها بشكل سريع مثل فرضية التمويه من الحيوانات المفترسة أو فرضية كون هذه الألوان تمنع استقطاب بعض الحشرات القارصة مثل الناموس وبالتالي عدم نقل بعض الأمراض القاتلة.
في الواقع إن كانت فرضية التمويه صحيحة فكان يجب أن نجد هذه الميزة عند كائنات أخرى تعيش بنفس ظروف الحمار الوحشي. مثلاً يجب أن نعثر على غزلان مخططة أو حيوانات عاشبة آخرى لها نوع من الخطوط في سبيل التمويه. فرضية التمويه تفترض أن الأسود (المفترس الأول للحمار الوحشي) تجد صعوبة في صيد الحمار الوحشي المخطط لكن هذا ببساطة ليس صحيح لأن الأسود تصطاد الحمير الوحشية بشكل مستمر دون أن أي فائدة تذكر للتمويه. نعم الأسود ترى لونين فقط وربما تكون هذه الخطوط تساهم في إخفاء الحمار الوحشي بين الأعشاب لكن إن وجدت أي فائدة لهذه الخطوط فهي فائدة ناتجة وليست الدافع الأساسي للتطور.
فرضية ابعاد الحشرات الطائرة تقول أن اللون الأسود لفروة الحصان بشكل عام يستقطب نوع من الحشرات الطائرة إذ أن قطبية الضوء المنعكس عن ظهر الحصان الأسود شبيه بقطبية الضوء المنعكس عن برك المياه والمستنقعات حيث تضع هذه الحشرات بيوضها، ولهذا فإن وجود اللون الأبيض بالقرب من اللون الأسود يغير من القطبية الضوئية المنعكسة عن ظهر الحمار الوحشي مما ينفّر الحشرات من الهبوط على ظهره. هذه الفرضية ايضاً لا تفسر عدم ظهور هذه الخطوط على ظهر الأحصنة في أماكن جغرافية آخرى غير البيئة الأفريقية. مثلاً لا نجد أحصنة مخططة في مناطق أسيا وأوروبا والأمريكيتين. نعم قد يقول البعض أن هذه الأحصنة هجينة لكن مع ذلك فإننا لا نجد أي دليل على ظهور هذه الخطوط على أي أنواع الأحصنة سوى في القارة الأفريقية وعلى ما نسميه حمار الوحش تحديداً.
فرضية التبريد:
الفرضية التي أجدها تنسجم مع نظرية التطور هي فرضية التبريد حيث أن الخطوط على ظهر الحمار الوحشي تقوم بدور نظام تبريد خارجي للجسم عن طريق ألية سأقوم بشرحها في السطور القادمة.
كيف تحدث عملية التبريد؟
بداية يجب تفسير علاقة الألوان مع القدرة على امتصاص اشعة الشمس حيث أن هذا الكائن الإفريقي يعيش في بيئة تعرّضه لأشعة الشمس طوال اليوم. دون الدخول بالتفاصيل الفيزيائية لماهية الألوان إلا أن الألوان عبارة عن انعكاس للموجات الضوئية على المواد التي حولنا. مثلاً عندما ننظر إلى سيارة زرقاء فنحن ننظر إلى جسم مطلي بمادة تمتص كل الموجات الضوئية عدى موجات ذات طول ٤٧٥ نانومتر تقريباً أو ما نترجمه في دماغنا على شكل اللون الأزرق. عند النظر إلى أوراق الأشجار فنحن ننظر إلى مواد عضوية لديها الكترونات تمتص كل الفوتونات الضوئية وتعكس فقط الفوتونات ذات طول ٥١٠ نانومتر أو ما نسميه اللون الأخضر. عندما ننظر إلى مادة لونها أصفر فهي مادة ذات الكترونات تمتص كل الموجات الضوئية عدى الموجات ذات طول ٥٧٠ نانومتر تقريباً والتي نترجمها على شكل لون أصفر وعندما ننظر إلى مادة شفافة فنحن ننظر إلى مادة فيها الكترونات محفزة لدرجة أنها تحتاج موجات ضوئية أعلى من الموجات المرئية بالنسبة لنا لكي تمتصها الالكترونات فتبدو لنا وكأنها شفافة. عندما ننظر إلى مواد ذات عدة ألوان فهي عبارة عن ذرات متنوعة لكل منها خصائص مختلفة تعكس الموجات الضوئية بالترددات التي نستطيع رصدها.
الكائنات الحية التي تعيش في بيئة تعرضها لأشعة الشمس لفترات طويلة تشكل لديها ضغط تطوري (أي أن من ليس لديه هذا الميزة مات) لإنتاج صبغي يحميها من أضرار أشعة الشمس. اشعة الشمس تؤثر بشكل سلبي على دقة الحمض النووي للكائنات الحية وبالتالي الكائنات التي لم يكن لديها القدرات على حماية نفسها من الأشعة الفوق بنفسجية قد انقرضت تاركة المجال للكائنات التي لديها صبغي الميلانين. صبغي الميلانين يُفَعّل في الجسم عند تعرض الجسم للأشعة الفوق بنفسجية مما يغيّر لون الجلد للاسمرار أكثر. هذا الصبغي موجود لدى الإنسان وأغلب الأحياء التي تتعرض لأشعة الشمس بشكل كبير.
اللون الأساسي للحمار الوحشي هو اللون الأسود إلا أن ضغطاً تطورياً ما أعطى أفضلية بقائية لكل الأفراد الذين ظهرت لديهم بقع بيضاء على أجسامهم. ماهي هذه الفائدة التطورية؟
عند معاينة الحصان بشكل عام والحمار الوحشي بشكل خاص نجد أن عملية الهضم لديهم ليست فعّالة مثل نظرائهم الأخرين من أكلة الأعشاب وبالتالي فإن الحمار الوحشي عليه صرف وقت أطول في اجترار الأعشاب. الحصان لديه معدة صغيرة نسبياً بالنسبة لحجم جسمه ويمتلك جهاز هضمي أقرب للإنسان عن غيره من المواشي وبالتالي يحتاج وقت طويل لإتمام عملية الأكل والهضم مما يعرّضه لأشعة الشمس لفترات أطول.
على الرغم من ان صبغي الميلانين يحمي الحمض النووي من الضرر الناتج عن أشعة الشمس إلا أن اللون الأسود الذي ينتج عن الميلانين يقوم بامتصاص كل ترددات الطيف الضوئي الواصل ويحوله إلى طاقة حرارية. أنا ذكرت سابقاً أن الألوان عبارة عن امتصاص جميع الترددات الضوئية وعكس تردد معين مما يظهر لعين الإنسان على شكل “لون” لكن اللون ليس شيء أساسي وإنما ترجمة دماغية لهذا الانعكاس الضوئي فقط. اللون الأسود ليس إلا تجسيد لظاهرة امتصاص كافة الترددات الضوئية وعدم عكس أي منها. يجدر الذكر هنا أن لون صبغي الميلانين هو نتيجة كيمائية وليس للون علاقة بعملية الحماية من الاشعة الشمسية. اللون الأسود يقوم بامتصاص حرارة الشمس وبالتالي رفع درجات الحرارة وفي المقابل على الأحياء أن تجد طريقة للتخلص من هذه الحرارة الزائدة.في حالة الإنسان فإن جسم الإنسان تطور بحيث يفرز العرق لكي يبرّد الجسم وفي حالة الحمار الوحشي تطور الجسم بحيث ظهرت أجزاء من الجسم دون صبغي الميلانين. الفائدة الفيزيائية لعدم وجود الميلانين هو الانتقال الحراري الدائم من الأعلى نحو الأسفل (الأنتروبي) ولهذا فإن الحرارة الممتصة تنتقل باتجاه البقع الأكثر برودة على الجسم. هذا الانتقال الحراري شبيه بالألية التي تنتج عنها الرياح على كوكب الأرض حيث أن أشعة الشمس تسخن الهواء فيصعد نحو الأعلى إلا أن يبدأ بالانتقال نحو المناطق الأقل حرارة مما يبدو لنا على شكل ريح.
نظام التبريد لدى الحمار الوحشي شبيه برياح صغيرة جداً تنتج عن الاختلال في درجات الحرارة بين بقع جلده مما يساهم في تبريد الجسم بشكل عام. هذه الفرضية إن كانت صحيحة فيجب أن نجد علاقة ترابط بين الموقع الجغرافي (درجة الحرارة) مع مدى غمق اللون الأبيض المنتشر على جسم الحمار الوحشي.
كما ذكرت سابقاً فأن هذه الفرضية لم يتم التحقق منها بشكل تجريبي لكني أعتقد أنها الأكثر صواباً حتى الأن.
تخيل أن التعرق لدى الإنسان يقابله تطورياً الخطوط البيضاء الجميلة على جسم الحمار الوحشي وأن هذه الخطوط البيضاء على الحمار الوحشي تعتمد على نفس الألية الفيزيائية التي تتشكل منها الرياح.
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق