السلطان «الأشرف قنصوه الغورى» أحد المماليك الجراكسة الذين حكموا مصر
شعبنا متدين بطبعه وبفطرته، يلبس لباس التقوى والورع ليل نهار، يتطوع لجمع التبرعات لإقامة المساجد فى الميادين العامة، والزوايا على مداخل الحارات والأزقة، والمصليات على شواطئ الترع والأنهار، الكل يأمل فى بيت له فى الجنة. مئات المساجد ترفع الأذان، يترك الموظفون مصالح الناس إلى الصلاة، ويصطفون فى الطرقات لأداء الصلوات، تزدحم المساجد بملايين المصلين ظهر الجمعة، يرتدون الجلباب الأبيض عنوان العفة والطهارة، تزدحم موائد الرحمن فى شهر رمضان، ويتنافس الناس على إفطار الصائمين فى الشوارع وعلى الطرق السريعة ليفوز بفضل إفطار صائم، يحرم من بيته بملابس الإحرام قاصداً الحج والعمرة فى أوقاتهما، وتزدحم بيوت الحرمين بالحجاج والمعتمرين من فقراء المسلمين المصريين لتسقط مدخراتهم فى أيدى أغنياء النفط، النقاب والحجاب زينة رؤوس البنات والنساء، والدعاء على المنابر لا ينقطع صباح مساء، بصلاح أحوالنا وفساد حال غير المسلمين، وزيادة رزقنا ونقص رزقهم، وشفاء مرضى المسلمين وسقم واعتلال صحتهم، وستر المسلمين وكشف سترهم، وخلاص المسلمين وهلاكهم، ونجاة المسلمين وفنائهم، وعمار ديار المسلمين وخراب كل الديار على الأرض من غيرهم. هذا هو التدين الفطرى الطبيعى الذى رضعناه من ثدى تاريخنا كله، فلا فلحنا ولا نجحنا ولا فزنا ولا سترنا ولا نجونا ولا عمرت بيوتنا ولا سترت أعراضنا!. ويتساءل الناس: ألسنا شعباً متديناً بفطرته، ونؤدى حقوق الله فما بال فلاحنا لم يفلح، وما بال نجاحنا لم ينجح؟ وما بال الرشوة والفساد واغتصاب الأطفال والكبار وضياع الحقوق منتشر فى شعب متدين بطبعه؟ وأجيب بحكاية عن سلطان مصرى، الحكاية تشبه تماماً ما نحن فيه، وهى حكاية «المسجد الحرام» لجدنا العظيم السلطان الغورى، واسمه السلطان «الأشرف قنصوه الغورى» أحد المماليك الجراكسة الذين حكموا مصر مائة وأربعين عاماً، تجرع المصريون فى عهدهم ألواناً من العذاب والظلم، حتى مات منهم من خارت قواه ووهنت عزيمته، فقد انتشرت المجاعات، وعمت الفاقة كل خلق الله، وجدبت الأرض وهلكت البهائم والدواب والزروع، وارتفعت الأسعار وعلا الفساد فى الأرض والبحر، بما صنعه حكام البلاد، ولم يكن أمام الناس من سبيل سوى التنكيت والتبكيت على الحكام والدعاء عليهم بقصف أعمارهم، إلا القليل فى تاريخهم كله، وكان أكثرهم ظلما هذا «الجد» قنصوه الغورى، وقد قال فيه أحد المؤرخين «كان ملكاً مهيباً، جليلاً مبجلاً فى المواكب، ملء العيون، ولولا ظلمه ومصادراته لحقوق الرعية، وحبه لجمع المال لكان خيار ملوك الشراكسة»، ولا أدرى كيف بغير هذا العيب يكون من الأخيار؟، فيكفيه هذا العيب حتى يكون أسوأ الأشرار، وغنى عن البيان أن هذا العيب لا يبلغه الإنسان إلا إذا جمع قبله، مساوئ وعيوب ومثالب الأسوأ من الناس، هذا «الجد» كان يضع يده على أموال التركات بلا صاحب، وأموال اليتامى، ولم يترك أمراً فيه مال إلا واختصه لنفسه ظلماً وجوراً، نأتى إلى حكايته وهى شبيهة بحكاياتنا أيضاً، أشار عليه أحد المشايخ فى نهاية عمره، أن يلحق نفسه من ظلمه، ويبنى له مدرسة وسبيلاً ومسجداً؛ السبيل للشراب، صدقة جارية يدعو له كل عابر سبيل يشرب ويرتوى بعد ظمأ، والمدرسة للتعليم، ذكرى طيبة من ريحته يظل يشمها أصحاب العلم طوال أعمارهم، والمسجد للصلاة، يصلى فيه الأطهار، فتصيبه البركة فى آخرته، ويبنى الله له بيتا فى الجنة يأوى إليه ويعفيه من سوء المنقلب والمصير، ويكون صاحبنا قد نفذ بجلده، وبرئ من ذنوبه فى الدنيا بقليل من ماله المنهوب، فأخذ الدنيا نهباً والآخرة نعيماً، وزاده الله ببيت له فى الجنة.. هيا أيها العزيز إلى العمل. ولأن النفس مطبوعة على سوئه، ولم يعد فى العمر بقية، فقد نزع ملكية الأرض من صاحبها عنوة، والأرض تقع بين تقاطع شارع المعز لدين الله الفاطمى وشارع الأزهر، وشمر السلطان ومعاونوه عن سواعدهم وجابوا شوارع المحروسة ينهبون من بيوت الناس وعوائلهم كل ما تقع أعينهم عليه، وفيه مصلحة لمشروع جدنا السلطان، فنهبوا الرخام الأبيض والأسود حتى ما جاء من بلاد الفرنجة، والنحاس المزخرف من دكاكين النحاسين، والخشب المنقوش من ورش النجارين، والنجف والثريات المزين بالكريستال من ورش أصحابها، والسجاد اليدوى من النساجين، وكل ما كان ينفع أو لا ينفع، حتى ضج الناس من هذا الظلم. نهاية الحكاية أن السلطان جدنا المعظم، مات مهزوماً فى موقعة مرج دابق، وجمعوا ما تبقى من بقاياه ورفاته بعد أن نهشتها الضباع والسباع، ودفنوها فى مسجده. ونأتى للمضحك فى الرواية أن فى افتتاحية المسجد والمدرسة والسبيل، قاطع المصريون البسطاء الولائم وحلقات الذكر والتواشيح وأطلقوا عليه «المسجد الحرام»، ولم يقصد المصريون طبعاً بيت الله فى مكة، لكنهم يقصدون بيت الله الذى بُنى من حرام! هل وصل المعنى؟
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق